فصل: قال القرطبي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٌ فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ إذَا اخْتَلَفَ فِيهِ الرَّجُلُ، وَالْمَرْأَةُ: إنَّ مَا يَكُونُ لِلرَّجُلِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ وَمَا كَانَ لِلنِّسَاءِ فَهُوَ لِلْمَرْأَةِ وَمَا كَانَ لِلرَّجُلِ، وَالْمَرْأَةِ فَهُوَ لِلرَّجُلِ فَحَكَمُوا فِيهِ بِظَاهِرِ هَيْئَةِ الْمَتَاعِ.
وَقَالُوا فِي الْمُسْتَأْجِرِ، وَالْمُؤَاجِرِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مِصْرَاعِ بَابٍ مَوْضُوعٍ فِي الدَّارِ: إنَّهُ إنْ كَانَ وَفْقًا لِمِصْرَاعٍ مُعَلَّقٍ فِي الْبِنَاءِ فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ وَفْقًا لَهُ فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ، وَكَذَلِكَ إنْ كَانَ جِذْعٌ مَطْرُوحٌ فِي دَارٍ وَعَلَيْهِ نُقُوشٌ وَتَصَاوِيرُ مُوَافِقَةٌ لِنُقُوشِ جُذُوعِ السَّقْفِ وَوَفْقًا لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ رَبِّ الدَّارِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لَهَا فَالْقَوْلُ قَوْلُ الْمُسْتَأْجِرِ. وَهَذِهِ مَسَائِلُ قَدْ حَكَمُوا فِي بَعْضِهَا بِالْعَلَامَةِ وَلَمْ يَحْكُمُوا بِهَا فِي بَعْضٍ.
وَلَا خِلَافَ بَيْنَ أَصْحَابِنَا أَنَّ رَجُلَيْنِ لَوْ تَنَازَعَا عَلَى قِرْبَةٍ وَهُمَا مُتَعَلِّقَانِ بِهَا وَأَحَدُهُمَا سَقَّاءٌ، وَالْآخَرُ عَطَّارٌ أَنَّهُ بَيْنَهُمَا نِصْفَيْنِ وَلَا يُقْضَى لِلسَّقَّاءِ بِذَلِكَ عَلَى الْعَطَّارِ، فَأَمَّا قَوْلُهُمْ فِي اللُّقَطَةِ، فَإِنَّ الْمُلْتَقِطَ لَهُ يَدٌ صَحِيحَةٌ، وَالْمُدَّعِي لَهَا يُرِيدُ إزَالَةَ يَدِهِ وَقَالَ النَّبِيُّ: صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي، وَالْيَمِينُ عَلَى الْمُدَّعَى عَلَيْهِ» وَكَوْنُ الَّذِي فِي يَدِهِ مُلْتَقَطًا لَا يُخْرِجُ الْمُدَّعِيَ مِنْ أَنْ يَكُونَ مُدَّعِيًا فَلَا يُصَدَّقُ عَلَى دَعْوَاهُ إلَّا بِبَيِّنَةٍ؛ إذْ لَيْسَتْ لَهُ يَدٌ، وَالْعَلَامَةُ لَيْسَتْ بِبَيِّنَةٍ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ ادَّعَى مَالًا فِي يَدِ رَجُلٍ وَأَعْطَى عَلَامَتَهُ وَاَلَّذِي فِي يَدِهِ غَيْرُ مُلْتَقِطٍ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُ الْعَلَامَةِ بَيِّنَةً يَسْتَحِقُّ بِهَا شَيْئًا.
وَأَمَّا قَوْلُ أَصْحَابِنَا فِي الرَّجُلَيْنِ يَدَّعِيَانِ لَقِيطًا كُلُّ وَاحِدٍ يَدَّعِي أَنَّهُ ابْنُهُ وَوَصَفَ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ، فَإِنَّمَا جَعَلُوهُ، أَوْلَى اسْتِحْسَانًا، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مُدَّعِيَ اللَّقِيطِ يَسْتَحِقُّهُ بِدَعْوَاهُ مِنْ غَيْرِ عَلَامَةٍ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ مِنْهُ بِقَوْلِهِ وَتَزُولُ يَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ، فَلَمَّا تَنَازَعَهُ اثْنَانِ صَارَ كَأَنَّهُ فِي أَيْدِيهِمَا؛ لِأَنَّهُمَا قَدْ اسْتَحَقَّا أَنْ يُقْضَى بِالنَّسَبِ لَهُمَا لَوْ لَمْ يَصِفْ أَحَدُهُمَا عَلَامَةً فِي جَسَدِهِ، فَلَمَّا زَالَتْ يَدُ مَنْ هُوَ فِي يَدِهِ صَارَ بِمَنْزِلَتِهِ لَوْ كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا مِنْ طَرِيقِ الْحُكْمِ جَمِيعُهُ فِي يَدِ هَذَا وَجَمِيعُهُ فِي يَدِ هَذَا، فَيَجُوزُ حِينَئِذٍ اعْتِبَارُ الْعَلَامَةِ.
وَنَظِيرُهُ الزَّوْجَانِ إذَا اخْتَلَفَا فِي مَتَاعِ الْبَيْتِ، لَمَّا كَانَ لِكُلِّ وَاحِدٍ يَدٌ فِي الْجَمِيعِ اُعْتُبِرَ أَظْهَرُهُمَا تَصَرُّفًا وَآكَدُهُمَا يَدًا، وَكَذَلِكَ الْمُسْتَأْجِرُ لَهُ يَدٌ فِي الدَّارِ، وَالْمُؤَاجِرُ أَيْضًا لَهُ يَدٌ فِي جَمِيعِ الدَّارِ فَلَمَّا اسْتَوَيَا فِي الْيَدِ فِي الْجَمِيعِ كَانَ الَّذِي تَشْهَدُ لَهُ الْعَلَامَةُ الْمُوَافِقَةُ لِصِحَّةِ دَعْوَاهُ أَوْلَى، وَكَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِحُكْمِ يَدِهِ لَا أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ بِهِ الْحُكْمَ لَهُ بِالْمِلْكِ كَمَا يَسْتَحِقُّ بِالْبَيِّنَاتِ.
فَهَذِهِ الْمَوَاضِعُ الَّتِي اعْتَبَرُوا فِيهَا الْعَلَامَةَ إنَّمَا اعْتَبَرُوهَا مَعَ ثُبُوتِ الْيَدِ لَكُلّ وَاحِدٍ مِنْ الْمُدَّعِيَيْنِ فِي الْجَمِيعِ، فَصَارَتْ الْعَلَامَةُ مِنْ حُجَّةِ الْيَدِ دُونَ اسْتِحْقَاقِ الْمِلْكِ بِالْعَلَامَةِ، وَأَمَّا الْمُدَّعِيَانِ إذَا كَانَ فِي أَيْدِيهِمَا شَيْءٌ مِنْ الْمَتَاعِ وَأَحَدُهُمَا مِمَّنْ يُعَالِجُ مِثْلَهُ وَهُوَ مِنْ آلَتِهِ الَّتِي يَسْتَعْمِلُهَا فِي صِنَاعَتِهِ، فَإِنَّهُ مَعْلُومٌ أَنَّ فِي يَدِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا النِّصْفُ وَأَنَّ مَا فِي يَدِ هَذَا لَيْسَ فِي يَدِ الْآخَرِ مِنْهُ شَيْءٌ، فَلَوْ حَكَمْنَا لِأَحَدِهِمَا بِظَاهِرِ صِنَاعَتِهِ، أَوْ بِعَلَامَةٍ مَعَهُ لَكُنَّا قَدْ اسْتَحْقَقْنَا عَلَيْهِ يَدًا هِيَ لَهُ دُونَهُ، فَهُمَا فِيهِ بِمَنْزِلَةِ رَجُلِ إسْكَافٍ ادَّعَى قَالِبَ خُفٍّ فِي يَدِ صَيْرَفِيٍّ فَلَا يَسْتَحِقُّ يَدَ الصَّيْرَفِيِّ لِأَجْلِ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِنَاعَتِهِ، وَمَسْأَلَةُ اللُّقَطَةِ هِيَ هَذِهِ بِعَيْنِهَا؛ لِأَنَّ الْمُدَّعِيَ لَا يَدَ لَهُ، وَإِنَّمَا يُرِيدُ اسْتِحْقَاقَ يَدِ الْمُلْتَقِطِ بِالْعَلَامَةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّهَا بِالدَّعْوَى إذَا لَمْ تَكُنْ مَعَهُ عَلَامَةٌ، فَكَذَلِكَ الْعَلَامَةُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَحِقَّ بِهَا يَدَ الْغَيْرِ، وَأَمَّا مَا رُوِيَ فِي حَدِيثِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ اللُّقَطَةِ فَقَالَ: «اعْرِفْ عِقَاصَهَا وَوِعَاءَهَا وَوِكَاءَهَا ثُمَّ عَرِّفْهَا سَنَةً، فَإِنْ جَاءَ صَاحِبُهَا وَإِلَّا فَشَأْنُك بِهَا»، فَإِنَّهُ لَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى أَنَّ مُدَّعِيَهَا يَسْتَحِقُّهَا بِالْعَلَامَةِ؛ لِأَنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ إنَّمَا أَمَرَهُ بِمَعْرِفَةِ الْعِقَاصِ، وَالْوِعَاءِ، وَالْوِكَاءِ لِئَلَّا يَخْتَلِطَ بِمَالِهِ وَلِيُعْلَمَ أَنَّهَا لَقْطَةٌ، وَقَدْ يَكُونُ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى صِدْقِ الْمُدَّعِي فَيَسَعُهُ دَفْعُهَا إلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ يَكُونُ لِذِكْرِ الْعَلَامَةِ وَلِمَا يَظْهَرُ مِنْ الْحَالِ تَأْثِيرٌ فِي الْقَلْبِ يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ صِدْقُهُ وَلَكِنَّهُ لَا يَعْمَلُ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ، وَقَدْ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ عَلَيْهِ السَّلَامُ عَلَى كَذِبِ إخْوَةِ يُوسُفَ بِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ لَخَرَّقَ قَمِيصَهُ، وَقَدْ رُوِيَ عَنْ شُرَيْحٍ وَإِيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ أَشْيَاءُ نَحْوُ هَذَا رَوَى ابْنُ أَبِي نَجِيحٍ عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: اخْتَصَمَ إلَى شُرَيْحٍ امْرَأَتَانِ فِي وَلَدِ هِرَّةٍ، فَقَالَتْ إحْدَاهُمَا: هَذِهِ وَلَدُ هِرَّتِي، وَقَالَتْ الْأُخْرَى: هَذِهِ وَلَدُ هِرَّتِي، فَقَالَ: أَلْقُوهَا مَعَ هَذِهِ، فَإِنْ دَرَّتْ وَقَرَّتْ وَاسْبَطَرَتْ فَهِيَ لَهَا، وَإِنْ هَرَّتْ وَفَرَّتْ وَازْبَأَرَّتْ فَلَيْسَ لَهَا.
وَرَوَى حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ: أَخْبَرَنِي مُخْبِرٌ عَنْ إيَاسِ بْنِ مُعَاوِيَةَ: أَنَّ امْرَأَتَيْنِ ادَّعَتَا كُبَّةَ غَزْلٍ، فَخَلَا بِإِحْدَاهُمَا، وَقَالَ: عَلَامَ كَبَبْت غَزْلَك؟ فَقَالَتْ: عَلَى جَوْزَةٍ، وَخَلَا بِالْأُخْرَى فَقَالَتْ: عَلَى كِسْرَةِ خُبْزٍ، فَنَقَضُوا الْغَزْلَ فَدَفَعُوهُ إلَى الَّتِي أَصَابَتْ وَهَذَا الَّذِي كَانَ يَفْعَلُهُ شُرَيْحٌ وَإِيَاسٌ مِنْ نَحْوِ هَذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى وَجْهِ إمْضَاءِ الْحُكْمِ بِهِ وَإِلْزَامِ الْخَصْمِ إيَّاهُ، وَإِنَّمَا كَانَ عَلَى جِهَةِ الِاسْتِدْلَالِ بِمَا يَغْلِبُ فِي الظَّنِّ مِنْهُ فَيُقَرِّرُ بَعْدَ ذَلِكَ الْمُبْطِلَ مِنْهُمَا، وَقَدْ يَسْتَحْيِ الْإِنْسَانُ إذَا ظَهَرَ مِثْلُ هَذَا مِنْ الْإِقَامَةِ عَلَى الدَّعْوَى فَيُقِرُّ فَيُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْإِقْرَارِ. اهـ.

.قال ابن العربي:

قَوْله تَعَالَى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنْ الْكَاذِبِينَ وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنْ الصَّادِقِينَ}.
فِيهَا أَرْبَعُ مَسَائِلَ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: لَيْسَتْ هَذِهِ الشَّهَادَةُ مِنْ شَهَادَاتِ الْأَحْكَامِ الَّتِي تُفِيدُ الْإِعْلَامَ عِنْدَ الْحُكَّامِ، وَيَتَفَرَّدُ بِعِلْمِهَا الشَّاهِدُ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْحَاكِمُ، وَإِنَّمَا هِيَ بِمَعْنَى أَخْبَرَ عَنْ عِلْمِ مَا كَانَ عَنْهُ الْقَوْمُ غَافِلِينَ؛ وَذَلِكَ أَنَّ الْقَمِيصَ جَرَتْ الْعَادَةُ فِيهِ أَنَّهُ إذَا جُذِبَ مِنْ خَلْفِهِ تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَإِذَا جُذِبَ مِنْ قُدَّامَ تَمَزَّقَ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ، وَلَا يُجْذَبُ الْقَمِيصُ مِنْ خَلْفِ اللَّابِسِ إلَّا إذَا كَانَ مُدْبِرًا، وَهَذَا فِي الْأَغْلَبِ، وَإِلَّا فَقَدْ يَتَمَزَّقُ الْقَمِيصُ بِالْقَلْبِ مِنْ ذَلِكَ إذَا كَانَ الْمَوْضِعُ ضَعِيفًا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
يَتَكَلَّمُ النَّاسُ فِي هَذَا الشَّاهِدِ مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ: الشَّاهِدُ هُوَ الْقَمِيصُ.
الثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ ابْنُ عَمِّهَا.
الثَّالِثُ: أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيزِ.
الرَّابِعُ: أَنَّهُ كَانَ صَبِيًّا فِي الْمَهْدِ.
فَأَمَّا إذَا قُلْنَا إنَّهُ الْقَمِيصُ فَكَانَ يَصِحُّ مِنْ جِهَةِ اللُّغَةِ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ حَالِهِ بِتَقْدِيرِ مَقَالِهِ؛ فَإِنَّ لِسَانَ الْحَالِ أَبْلَغُ مِنْ لِسَانِ الْمَقَالِ فِي بَعْضِ الْأُمُورِ، وَقَدْ تُضِيفُ الْعَرَبُ الْكَلَامَ إلَى الْجَمَادَاتِ بِمَا تُخْبِرُ عَنْهُ بِمَا عَلَيْهَا مِنْ الصِّفَاتِ، وَمِنْ أَجْلَاهُ قَوْلُ بَعْضِهِمْ: قَالَ الْحَائِطُ لِلْوَتَدِ: لِمَ تَشُقُّنِي.
قَالَ: سَلْ مَنْ يَدُقُّنِي، مَا تَرَكَنِي وَرَأْيِي هَذَا الَّذِي وَرَائِي، وَلَكِنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: {مِنْ أَهْلِهَا} فِي صِفَةِ الشَّاهِدِ يُبْطِلُ أَنْ يَكُونَ الْقَمِيصَ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ ابْنُ عَمِّهَا أَوْ رَجُلٌ آخَرُ مِنْ أَصْحَابِ الْعَزِيزِ، فَإِنَّهُ مُحْتَمَلٌ؛
لَكِنَّ قَوْلَهُ: {مِنْ أَهْلِهَا} يُعْطِي اخْتِصَاصًا مِنْ جِهَةِ الْقَرَابَةِ.
وَأَمَّا مَنْ قَالَ: إنَّهُ كَانَ صَغِيرًا فَهُوَ الَّذِي يُرْوَى عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَأَنَّهُ قَدْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَرْبَعَةٌ: «عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَابْنُ مَاشِطَةِ فِرْعَوْنَ، وَشَاهِدُ يُوسُفَ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ،» وَنَقَصَهُمْ اثْنَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ الَّذِي «ذَكَرَ النَّبِيُّ فِي قِصَّةِ أَصْحَابِ الْأُخْدُودِ أَنَّهُمْ لَمَّا حُفِرَتْ لَهُمْ الْأَرْضُ، وَرُمِيَ فِيهَا بِالْحَطَبِ وَأُوقِدَتْ النَّارُ عَلَيْهَا، وَعُرِضَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَقَعُوا فِيهَا أَوْ يَكْفُرُوا الْحَدِيثَ بِطُولِهِ. فَوَقَفَتْ امْرَأَةٌ مِنْهُمْ، وَكَانَ فِي ذِرَاعِهَا صَبِيٌّ فَقَالَ لَهَا: يَا أُمَّهْ، إنَّك عَلَى الْحَقِّ». وَهَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ.
وَالثَّانِي: مَا رُوِيَ أَنَّ امْرَأَةً كَانَتْ تُرْضِعُ صَبِيًّا فِي حِجْرِهَا، فَمَرَّ بِهَا رَجُلٌ لَهُ شَارَةٌ وَحَوْلَهُ حَفَدَةٌ، فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ اجْعَلْ ابْنِي مِثْلَ هَذَا، فَتَرَكَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلنِي مِثْلَهُ، وَمَرَّ بِامْرَأَةٍ وَهُمْ يَضْرِبُونَهَا وَيَقُولُونَ: سَرَقْت وَلَمْ تَسْرِقْ وَزَنَيْت وَلَمْ تَزْنِ.
فَقَالَتْ: اللَّهُمَّ لَا تَجْعَلْ ابْنِي مِثْلَهَا، فَتَرَكَ الصَّبِيُّ الثَّدْيَ، وَقَالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِثْلَهَا.
وَأَوْحَى إلَى نَبِيِّ ذَلِكَ الزَّمَانِ أَنَّ الْأَوَّلَ لَا خَيْرَ فِيهِ، وَأَنَّ هَذِهِ يَقُولُونَ فَعَلَتْ وَهِيَ لَمْ تَفْعَلْ.
هَذَا مَعْنَى الْحَدِيثِ.
فَاَلَّذِي صَحَّ فِيمَنْ تَكَلَّمَ فِي الْمَهْدِ أَرْبَعَةٌ: صَاحِبُ الْأُخْدُودِ، وَصَاحِبُ جُرَيْجٍ وَعِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ، وَهَذَا الصَّبِيُّ الَّذِي تَكَلَّمَ فِي حِجْرِ الْمَرْأَةِ بِالرَّدِّ عَلَى أُمِّهِ فِيمَا اخْتَارَتْهُ وَكَرِهَهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:
قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُفَسِّرِينَ: لَوْ كَانَ هَذَا الْمُشَاهِدُ طِفْلًا لَكَانَ فِي كَلَامِهِ فِي الْمَهْدِ وَشَهَادَتِهِ آيَةٌ لِيُوسُفَ، وَلَمْ يُحْتَجْ إلَى ثَوْبٍ وَلَا إلَى غَيْرِهِ.
وَهَذَا ضَعِيفٌ فَإِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ الصَّبِيُّ يَتَكَلَّمُ فِي الْمَهْدِ مُنَبِّهًا لَهُمْ عَلَى هَذَا الدَّلِيلِ الَّذِي كَانُوا عَنْهُ غَافِلِينَ، وَكَانَتْ آيَةً، كَمَا قَالَ: تَبَيَّنَتْ بِهَا بَرَاءَةُ يُوسُفَ مِنْ الْوَجْهَيْنِ: مِنْ جِهَةِ نُطْقِ الصَّبِيِّ، وَمِنْ جِهَةِ ذِكْرِ الدَّلِيلِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ:
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: فِي هَذَا دَلِيلٌ عَلَى الْعَمَلِ بِالْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لِمَا ذُكِرَ مِنْ أَخْذِ الْقَمِيصِ مُقْبِلًا وَمُدْبِرًا، وَمَا دَلَّ عَلَيْهِ الْإِقْبَالُ مِنْ دَعْوَاهَا، وَالْإِدْبَارُ مِنْ صِدْقِ يُوسُفَ؛ وَهَذَا أَمْرٌ تَفَرَّدَ بِهِ الْمَالِكِيَّةُ كَمَا بَيَّنَّاهُ فِي كُتُبِنَا.
فَإِنْ قِيلَ: هَذَا شَرْعُ مَنْ قَبْلَنَا.
قُلْنَا: عَنْهُ جَوَابَانِ.
أَحَدُهُمَا: أَنَّ شَرْعَ مَنْ قَبْلَنَا شَرْعٌ لَنَا.
وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.
الثَّانِي: أَنَّ الْمَصَالِحَ وَالْعَادَاتِ لَا تَخْتَلِفُ فِيهَا الشَّرَائِعُ.
أَمَّا أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَخْتَلِفَ وُجُودُ الْمَصَالِحِ فَيَكُونَ فِي وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ، فَإِذَا وُجِدَتْ فَلابد مِنْ اعْتِبَارِهَا.
وَقَدْ اسْتَدَلَّ يَعْقُوبُ بِالْعَلَامَةِ، فَرَوَى الْعُلَمَاءُ أَنَّ الْإِخْوَةَ لَمَّا ادَّعَوْا أَكْلَ الذِّئْبِ[لَهُ قَالَ: أَرُونِي الْقَمِيصَ.
فَلَمَّا رَآهُ سَلِيمًا قَالَ: لَقَدْ كَانَ هَذَا الذِّئْبُ حَلِيمًا.
وَهَكَذَا فَاطَّرَدَتْ الْعَادَةُ وَالْعَلَامَةُ، وَلَيْسَ هَذَا بِمُنَاقِضٍ لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «الْبَيِّنَةُ عَلَى الْمُدَّعِي وَالْيَمِينُ عَلَى مَنْ أَنْكَرَ».
وَالْبَيِّنَةُ إنَّمَا هِيَ الْبَيَانُ، وَدَرَجَاتُ الْبَيَانِ تَخْتَلِفُ بِعَلَامَةٍ تَارَةً، وَبِأَمَارَةٍ أُخْرَى؛ وَبِشَاهِدٍ أَيْضًا، وَبِشَاهِدَيْنِ ثُمَّ بِأَرْبَعٍ. اهـ.

.قال ابن عطية:

{قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي}
قال نوف الشامي: كان يوسف عليه السلام لم يبن على كشف القصة، فلما بغت به غضب فقال الحق، فأخبره أنها هي راودته عن نفسه، فروي أن الشاهد كان الرجل ابن عمها، قال: انظر إلى القميص فإن كان قده من دبر فكذبت، أو من قبل فصدقت، قاله السدي. وقال ابن عباس: كان رجلًا من خاصة الملك، قاله مجاهد وغيره. وقيل: إن الشاهد كان طفلًا في المهد فتكلم بهذا، قاله أيضًا ابن عباس وأبو هريرة وابن جبير وهلال بن يساف والضحاك.
قال القاضي أبو محمد: ومما يضعف هذا أن في صحيح البخاري ومسلم: لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج، وابن السوداء الذي تمنت له أن يكون كالفاجر الجبار، فقال: لم يتكلم وأسقط صاحب يوسف منها، ومنها أن الصبي لو تكلم لكان الدليل نفس كلامه دون أن يحتاج إلى الاستدلال بالقميص. وأسند الطبري إلى ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «تكلم في المهد أربعة»، فذكر الثلاثة وزاد صاحب يوسف، وذكر الطبري عن ابن عباس: أن ابن ماشطة فرعون تكلم في المهد، فهم على هذا خمسة، وقال مجاهد- أيضًا- الشاهد القميص.
قال القاضي أبو محمد: وهذا ضعيف لأنه لا يوصف بأنه من الأهل.
وقرأ جمهور الناس: {من قبُلٍ} و: {من دبُرٍ} بضم الباءين وبالتنوين، وقرأ ابن يعمر والجارود بن أبي سبرة ونوح وابن أبي إسحاق: {من قُبُلُ} و: {من دُبُرُ} بثلاث ضمات من غير تنوين، قال أبو الفتح: هما غايتان بنيتا، كقوله تعالى: {من قبل ومن بعد} [الروم: 4] قال أبو حاتم: وهذا رديء في العربية جدًا، وإنما يقع هذا البناء في الظروف، وقرأ الحسن: {من قبْلٍ} و: {من دبْرٍ} بإسكان الباءين والتنوين، ورويت عن أبي عمرو وروي عن نوح القاري أنه أسكن الباءين وضم الأواخر ولم ينون ورواها عن ابن أبي إسحاق عن يحيى بن يعمر.
وسمي المتكلم بهذا الكلام: {شاهد} من حيث دل على الشاهد ونفس الشاهد هو تخريق القميص.
وقرأت فرقة: {فلما رأى قميصه عط من دبر}. والضمير في: {رأى} هو للعزيز، وهو القائل: {إنه من كيدكن}، قاله الطبري وقيل: بل الشاهد قال ذلك، والضمير في: {إنه} يريد مقالها المتقدم في الشكوى بيوسف.
ونزع بهذه الآية من يرى الحكم بالأمارة، من العلماء، فإنها معتمدهم، و: {يوسف} في قوله: {يوسف أعرض عن هذا} منادى، قاله ابن عباس، ناداه الشاهد، وهو الرجل الذي كان مع العزيز، و: {أعرض عن هذا} معناه: عن الكلام به، أي اكتمل ولا تتحدث به؛ ثم رجع إليها فقال: {واستغفري لذنبك} أي استغفري زوجك وسيدك، وقال: {من الخاطئين} ولم يقل: من الخاطئات لأن الخاطئين أعم، وهو من: خطئ يخطأ خطئًا وخطأ، ومنه قول الشاعر أوس بن غلفاء: الوافر:
لعمرك إنما خطئي وصوبي ** عليّ وإنما أتلفت مالي

وينشد بيت أمية بن أبي الصلت: الوافر:
عبادك يخطئون وأنت رب ** بكفيك المنايا والحتوم

اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا}.
فيه ثلاث مسائل:
الأولى: قال العلماء: لما برّأت نفسها؛ ولم تكن صادقة في حبه لأن من شأن المحبّ إيثار المحبوب قال: {هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي} نطق يوسف بالحق في مقابلة بهتها وكذبها عليه.
قال نُوفٌ الشاميّ وغيره: كأنّ يوسف عليه السلام لم يَبِن عن كشف القضية، فلما بَغَت به غضب فقال الحق.
الثانية: {وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا} لأنهما لما تعارضا في القول احتاج الملك إلى شاهد ليعلم الصادق من الكاذب، فشهد شاهد من أهلها، أي حكم حاكم من أهلها؛ لأنه حكم منه وليس بشهادة.
وقد اختلف في هذا الشاهد على أقوال أربعة: الأوّل أنه طفل في المهد تكلم؛ قال السّهيلي: وهو الصحيح؛ للحديث الوارد فيه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قوله: «لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة» وذكر فيهم شاهد يوسف.
وقال القُشيريّ أبو نصر: قيل (فيه): كان صبيًا في المهد في الدار وهو ابن خالتها؛ وروى سعيد بن جُبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «تكلم أربعة وهم صغار» فذكر منهم شاهد يوسف؛ فهذا قول.